الاستبداد هو أصل الشرور .. ومذبحة الكنيسة واحدة من نكباته..(1-3)

لا يمكن أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونستمر في تضليل الناس والزعم بأن هناك خيوطا خارجية، وجماعات إرهابية والإيحاء بأصابع الموساد والقاعدة وخلافه من المشاجب التي يريد نظام الفساد والاستبداد تعليق فشله عليها للتخفيف من حجم إخفاقاته ونكساته.
ما حدث على بشاعته –للأسف- لا أتجاوز إذا قلت أنه كان متوقعا، ربما فوجئنا بحجم البشاعة والقسوة والإجرام الغير مسبوق الذي استهدف قتل أكبر عدد من الضحايا الأبرياء عند خروجهم من كنيستهم، وهو العمل الذي يجب التنديد به على أوسع نطاق، ليس لأنه غدر وظلم وعدوان، بل لأنه عمل لا يليق أن ينسب لأي دين أو قيمة إنسانية أو سياسية أو أخلاقية.
ولكن لو اكتفينا بالندب والتنديد والحزن والغضب بدون النظر للخلفيات والأوضاع التي خلقت هذه الأجواء الكئيبة التي تعيشها مصر والتي سمحت بتفاقم الغضب المدمر الذي عبر عنه هذا الانتحاري المهووس والذي ربما لم يكن بمفرده، ومن غير المستبعد أيضا أن يكون مقدمة لأعمال أخرى لانتحاريين آخرين من نفس المجموعة قد يبادرون بالانتحار ولاسيما عندما يشعرون بتضييق الخناق عليهم، وهذا أخطر ما في هذا النمط من الأعمال، التي لا يستطيع الأمن مهما كانت قوته واستعداده في أي بلد أن يتمكن من منعها .
القضية تحتاج لعلاج ومواجهة جذرية تخفف حدة الاحتقان القائم ولا تسمح باستمرار تعفن الأجواء وتسمم الأفكار التي تسمح بوجود شحنات كبيرة من الغضب التي أدت إلى هذه الأحداث البشعة، وخلاف ذلك فإننا نخدع أنفسنا وشعبنا ولا نقدم رؤية وحلول حقيقية وناجعة لإنقاذ مصر.
ودعني أقول أن نظام مبارك لم يعد قادرا على مواجهة قضايا ومشاكل الوطن، فالنظام الذي أفسد على مدار ثلاثة عقود ليس من المنطقي أن يزعم أنه قادر على فعل شيء الآن لإصلاح ما أفسده وتقديم الحلول، إنه نظام متورط منذ الثمانينات في مواجهة الشعب وقمعه ويتخذ من معركته مع التيار الإسلامي ذريعة لاحتجاز التطور الديمقراطي والمجتمعي في مصر، ويعود ذلك لأسباب من الواضح أنها نفسية في شخصية مبارك، وأيديولوجية كما عبرت عنها إحدى وثائق ويكيليكس التي وصفت فيها السفيرة الأمريكية مبارك بأنه (علماني كلاسيكي يرفض تدخل الدين في السياسة، ويستشهد عادة بما حدث لشاه إيران عندما ضغطت عليه واشنطن لإدخال إصلاحات سياسية، ما أدى إلى سقوط حكمه وقيام نظام ثوري إسلامي في مكانه)
فهذا رئيس متجمد العقل والفكر لا يتمتع بأي قدر من الإبداع، ولو كان يفكر أو يستعين بمفكرين حقيقيين لرأى الفروق الكبيرة بين المجتمع المصري والإيراني، بل لعمد إلى ترقية الفكر الديني ووضع ضوابط قانونية ودستورية قوية لإدماج هذا الشباب في العملية السياسية والمجتمعية، وتشجيع اجتهاد العلماء والمفكرين لتقديم فكر إسلامي مستنير وخاصة وأن الإسلام كدين يقوم على الأسس التعاقدية والتي نسميها الآن مدنية، فلا هو دين يؤمن بالكهنوت ولا بدور خاص لرجال الدين وهو دين يقف ضد الظلم وانتهاك حقوق الإنسان ويقوم على حماية الحريات الدينية التي سمحت بهذا التنوع الديني في المنطقة طوال 14 قرن من الزمان قبل أن تصبح هذه القيم عالمية، ونحن بالتأكيد لازلنا في حاجة ماسة لاجتهادات مخلصة معاصرة تجسر الهوة بين الفكرة الدينية المتجذرة في الشعب المصري بل وفي المسلمين والمسيحيين من سكان هذه المنطقة من العالم التي خصها الله عز وجل بأنها كانت مهبط الوحي ومصدر الديانات التوحيدية الرئيسية في العالم أجمع.
ودور الدين في السياسة أمر معترف به في العالم أجمع، فالدين في مصر جزء من الهوية الوطنية والمنظومة القيمية للناس، وهناك العديد من الكتب والدراسات والتصريحات للسياسيين قديما وحديثا تعكس مدى تغلغل هذه الهوية الدينية للشعوب وانعكاساتها على تحالفاتها وسياستها وهو أمر ليس منكرا ولا يحتاج للبراءة منه، ولدينا كيان مصطنع على حدودنا قام على اساس أساطير دينية، يدعمه غرب يؤمن بالصهيونية المسيحية القائمة هي الآخرى على اساطير دينية، ويضم هذا الكيان العديد من الأحزاب الدينية بعضها يمكن وصفه بالظلامية التي لاتزال تخاصم العلم وحتى التقنيات الحديثة، ولكن للمتدينين فيها مكانة خاصة وامتيازات قررها المؤسسون الأوائل، ولا تزال تناضل من أجل اعتراف العالم بهويتها كدولة يهودية، ويطبل الغرب الذي يشعر بالحساسية من كل ما هو إسلامي بإسرائيل اليهودية، ثم نحن بعد ذلك نعادي ونقمع كل ما هو ديني، ونستنفذ طاقة وجهد مصر وأبنائها واقتصادها وتماسكها على مدار العقود في هذه المواجهة بين النظام الفاشل وقوى إسلامية يعتبرها ظلما وزورا وعدوانا تشكل خطرا على الأمن القومي للنظام، مما ساهم في تخلف مجتمعاتنا التي فقدت القدرة على الابداع والخروج مما يمكن وصفه بمشكلة الهوية، بسبب قيادة زعامات لا علاقة لها بالسياسة وتريد قيادة المجتمع بوسائل عسكرية وبوليسية.
انحسار الرؤية واستمرار الصراع واستخدام وسائل العنف والقهر لشيطنة الحركة الإسلامية باعتباره أقصر الطرق للتقرب من الغرب وإسرائيل وكسب دعمهم، حيث يدرك مبارك جيدا مدى تضخم عقدة الخوف من الإسلام والتي تعتبر كلمة السر في الفكر الغربي والصهيوني الذي يرى في الإسلام كدين وكفكر أنه القوة الروحية والوحيدة التي جعلت هذه المنطقة تستعصي على الذوبان وعلى الخضوع والاستسلام.
(ونكمل بكره)