عجائب البحر

عجائب البحر
عجبت لهذا البحر لازال بالفضل زاخراً *** يشابه في مذخوره لغة الضادِ
إذا ما أتاه المرء بالهمّ مثقلاً *** يرى فيه تنفيساً لكرب وأنكاد
إذا بثه الأحباب ما في نفوسهم *** رأوا فيه ترويحاً لآهات أكباد
هواء عليل يمتع النفس كلما *** سرى طيبه أزكى من المسك والكادي
ويحلو لذي الإيمان تسبيح ربه *** على شاطئ فيه انسجام لمرتاد
يرى من هُدى الباري وآثار فضله *** دلائل للتوحيد من غير أنداد
فكم نظرة للبحر نفاذة الرؤى *** تسل سيوف الفكر من بعد إغماد
كم أوجد الباري به من عوالم *** تحدث عن إعجاز خلق وإيجاد
إذا كانت الأسماك تأبى فنونها *** وألوانها أن تنطوي تحت أعداد
فكيف بآلاف الأعاجيب غيرها *** من رائح في لجة البحر أو غاد
وفيها من الآيات ما يذهل النهى *** وذلك ما يرويه أرباب أرصاد
وكم آية لله تروي بنفسها *** شواهد للإبداع من غير إسناد
إن زمجرت يوماً تثير انفعاله *** تنقض أمواج لها صوت إرعادِ
إذا ثار فهو الخوف والموت والردى *** وتعشقه الأرواح في ثوبه الهادي
إذا ما ارتدى ثوب الرضى كان سلوة *** لأضيافه من كل جمع وآحاد
فإن هاج لم يأبه لجار وصاحب *** فكم من دمار واقتحام وإسهاد
قوي صبور صامد كم توافدت *** عليه البرايا ثم تمني بإحصاد
ولا زالت الأمواج منذ ابتدائه *** توالي خطاها في هبوط وأسناد
ألا أيها البحر يا خير آية *** على روعة الإبداع للخالق الهادي
لنا ذكريات فيك تزهو بطيفها *** وتبعث في أرواحنا عطر آباد
حملت كليم الله طفلاً ملففاً *** بأمر من الباري على متن أعواد
مضيت به للمارد الكافر الذي *** طغى وانبرى ما بين قتل وإفساد
وما زلت في حب لموسى ونصرة *** وكنت لجند الحق تسعى بإمداد
هوى بالعصا موسى فحييت صوته *** بخير دروب آمنات كأطواد
فلما أتى فرعون يزهو بجيشه *** تدافعت الأمواج فتكاً بأوغاد
وأبقيت للذكرى مدى الدهر آية *** فناء لأرواح ومكث لأجساد
ويونس لما ساهم الركب سهمه *** رماه بلج منك من غير إنجاد
سعى الحوت مأموراً به لالتقامه *** فأمسى بجوف الحوت في هول إرعاد
فقام يناجي ربه في ظلامه *** بأزكى دعاء في خضوع وترداد
يناجي الذي ما خاب من يحتمي به *** غياث لملهوف ملاذ لقصاد
أتى أمره للحوت أن ألق يونساً *** فما لك فيه أيها الحوت من زاد
فألقى به مضنى إلى ظل دوحة *** وبادر يقطين لستر وإضماد
ويمضي شريط الذكريات الذي لنا *** مع البحر من مجد تليد وإسعاد
أولئك جند الله ساروا بخيلهم *** على البحر حتى هابهم كل صداد
وجن جنون الفرس والروم إذ رأوا *** خيولاً على الأمواج تمضي بآساد
هوى عرش كسرى وانقضى ملك قيصر *** ونادى مناد الحق في الحضر والبادي
طويناه نروي قصة المجد والتقى *** فكم من جموع عابرات وأفراد
وكم راية في الصين والهند تعتلي *** تُحدث عن أحفاد سعد ومقداد
دعاة إلى التوحيد والعلم والرضى *** لجند رسول الله من خير أحفاد
سلوا كل بحر عن علانا ويابس *** سلوا السهل والصحراء والتل والوادي
سلوا المغرب الأقصى وأزهار فارس *** وأمواج أوربا وآثار بغداد
سلوا كل نهر أو محيط عن الذي *** طواه احتساباً من دعاة وقواد
تجلى لكم من دفتر المجد أسطراً *** محيطاتها من أطلسيٍّ ومن هادي
ألا أيها البحر هلا رويت لي *** أحاديث من أخبار هود ومن عاد
وعمن مضى من قوم نوح وتبّع *** وموسى وذي مكر شديد وأوتاد
وعن آل ساسان الذين تألقوا *** بأمجادهم دهراً وعن آل شداد
وعمن قضوا ليلاً من الأنس حالماً *** وكم شيدوا من دار لهو ومن ناد
وعن باطش للهول والموج ماخر *** فكانت له الأمواج في شر مرصاد
وعن مؤمن خاض المحيطات صابراً *** يمزق بالإيمان أستار إلحاد
وعن أمم من كل بر وفاجر *** ولون وجنس أو عبيد وأسياد
قرون مع الأيام تفنى وأنت في *** صمودك لم تحفل بموت وميلاد